I believe in one thing only, the power of human will.

Let's live our only one life peacefully...lose this Heresies... free your selves ...there is no life after death .......
My MOTHER NATURE please forgive them!!!!!

Search This Blog

Thursday, December 17, 2009

من خلق الله؟؟

1- مصادر الدين الخوف - الدهشة - الأحلام - النفس - الروحانية

الخوف- كما قال لوكريشس- أول أمهات الآلهة، وخصوصاً الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار، وقلما جاءتها المنيَّةُ عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدب الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل، كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف أو بمرض غريب يفتك بها فتكا، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أن الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة، ففي أساطير سكان بريطانيا الجديدة الأصليين، جاء الموت نتيجة خطأ أخطأته الآلهة، فقد قال الإله الخير كامبيناتا" إلى أخيه الأحمق"كورفوفا": "اهبط إلى الناس وقل لهم يسلخوا جلودهم حتى يتخلصوا من الموت، ثم أنبئ الثعابين أن موتها منذ اليوم أمر محتوم" فخلط "كورفوفا" بين شطري الرسالة بحيث بلغ سر الخلود للثعابين، وقضاء الموت للإنسان؛ وهكذا ظن كثير من القبائل أن الموت مرجعه إلى تقلص الجلد، وأن الإنسان يخلد لو استطاع أن يبدل بجلده جلداً آخر.
وتعاونت عدة عوامل على خلق العقيدة الدينية، فمنها الخوف من الموت، ومنه كذلك الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة أو الأحداث التي ليس في مقدور الإنسان فهمها، ومنها الأمل في معونة الآلهة والشكر على ما يصيب الإنسان من حظ سعيد، وكان أهم ما تعلقت بهدهشتهم وما استوقف أنظارهم بسره العجيب هما الجنس والأحلام، ثم الأثر الغريب الذي تحدثه أجرام السماء في الأرض والإنسان؛ لقد بهت الإنسان البدائي لهذه الأعاجيب التي يراها في نومه، وفزع فزعا شديداً حين شهد في رؤاه أشخاص أولئك الذين يعلم عنهم علم اليقين أنهم فارقوا الحياة؛ لقد دفن موتاه بيديه ليحول دون عودتهم؟ لقد دفن مع الموتى ألوان الطعام وسائر الحاجات حتى لا يعود الميت من جديد فيصبّ عليه لعنته، بل كان أحيانا يترك للميت الدار التي جاءه فيها الموت، وينتقل هو إلى دار أخرى، وفي بعض البلدان كان الإنسان البدائي يُخرج الجثة من الدار خلال ثقب في الحائط، لا من بابها، ثم يدور بها حول الدار ثلاث دورات سريعة، لكي تنسى الروح أين المدخل إلى تلك الدار فلا تعاودها أبدا.
مثل هذه الأحداث التي كانت تصادف الإنسان البدائي في حياته، أقنعته بأن كل كائن حي له نفَس أو حياة دفينة في جوفه، يمكن انفصالها عن الجسد إبان المرض والنوم والموت؛ جاء في كتاب من كتب "بوبانشاد" في الهند القديمة: "لا يوقظنَّ أحد نائماً إيقاظاً مفاجئاً عنيفاً؛ لأنه من أصعب الأمور علاجا أن تضل الروح فلا تعرف طريقها إلى جسدها" وليست الروح بقاصرة على الإنسان وحده، بل إن لكل شئ روحاً، والعالم الخارجي ليس مواتاً ولا خلواً من الإحساس، لكنه كائن حي دافق الحياة. ولو لم يكن الأمر كذلك- هكذا ظن الفلاسفة القدامى- لكان العالم مليئاً بالأحداث التي يستحيل تعليلها، مثل حركة الشمس، أو البرق الذي يصعق الأحياء، أو تهامس الشجر، وهكذا تصور الناس الأشياء والحوادث مشخصة قبل أن يتصوروها جوامد أو مجردة؛ وبعبارة أخرى سبقت الديانة الفلسفة؛ وهذه الروحانية في النظر إلى الأشياء هي ما في الدين من شعر، وما في الشعر من دين؛ وقد نشاهدها في أبسط صورها، في عيني الكلب الدهِشتَين إذ يرقب بهما ورقة حملته الريح أمامه، فربما ظن إزاءها أنلها روحا تحركها من باطنها، وهذا الشعور نفسه هو الذي تصادفه في أعلى درجاته عند الشاعر فيما ينظم من قصيد؛ ففي رأي الإنسان البدائي- وفي رأي الشعراء في كل العصور- أن الجبال والأنهار والصخور والأشجار والنجوم والشمس والقمر والسماء، كلها أشياء مقدسة لأنها العلامات الخارجية المرئية للنفوس الباطنية الخفية؛ وكذلك الحال مع اليونان الأقدمين إذ جعلوا السماء هي الإله "أورانوس"، والقمر هو الإله "سلين"، والأرض هي الإلهة "جى"، والبحر هو الإله "بوزيدن"، وأما الإله "بان" ففي كل أرجاء الغابات في وقت واحد؛ والغابات في رأي الجرمان الأقدمين كانت في أول أمرها عامرة بالجن والشياطين والسحرة والمَرَدة والأقزام وعرائس الجن وإنك لتلمس هذه الكائنات الجنية مبثوثة في موسيقى "فاجنر" وفي مسرحيات "إبسِن"الشعرية؛ والفلاح الساذج في إيرلندة لا يزال يؤمن بوجود الجنيات، ويستحيل أن يُعترف بشاعر أو كاتب مسرحي على أنه من رجال النهضة الأدبية هناك إلا إذا أدخل الجنيات في أدبه، وإن في هذه النظرة الروحانية لحكمةً وجمالاً، فمن الخير الذي يشرح الصدور أن تعامل الأشياء معاملتك للأحياء؛ والنفس الحساسة- كما يقول أرهف الكتاب المعاصرين حساسية- ترى كأنما:
"الطبيعة أخذت تتبدى في هيئة مجموعات كبرى من كائنات حية مستقل بعضها عن بعض؛ بعضها مرئي وبعضها خفي، لكنها جميعاً من طبيعة العقل، ثم هي جميعاً من طبيعة المادة، وهي كذلك جميعاً تمزج في أنفسها بين العقل والمادة فتكون بذلك سر الوجود العميق... إن العالم ملئ بالآلهة! فمن كل كوكب ومن كل صخرة ينبثق وجود يثيرنا بنوع من الإحساس الذي ندرك به كثرة ما هنالك من قوى شبيهة بقوى الآلهة، فمنها القوي ومنها الضعيف، ومنها الجليل ومنها الضئيل، تتحرك كلها بين السماء والأرض لتحقق غاياتها التي كتمتها في أجوافها سراً".
2- المعبودات الدينية الشمس - النجوم - الأرض - الجنس - الحيوان - الطوطمية - الانتقال إلى مرحلة الآلهة البشرية - عبادة الأشباح - عبادة الأسلاف


لما كان لكل شيء روح، أو إله خفي، إذن فالمعبودات الدينية لا تقع تحت الحصر، وهي تقع في ستة أقسام: ما هو سماوي، وما هو ارضي، وما هو جنسي، وما هو حيواني، وما هو بشري، يوما هو إلهي؛ وبالطبع لن يتاح لنا قط أن نعلم أي الأشياء في هذا العالم الفسيح كان أول معبود للإنسان؛ وربما كان القمر بين المعبودات الأولى؛ فكما أننا اليوم نتحدث في أغانينا الشعبية عن "الرجل الذي يسكن القمر" كذلك صورت الأساطير الأولى القمر رجلا شجاعا أغوى النساء وسبب لهن الحيض مرة كلما ظهر؛ ولقد كان القمر إلها محببا للنساء، عَبدَنَه لأنه حاميهن بين الآلهة؛ وكذلك اتخذ القمر الشاحبُ مقياسا للزمن، فهو في ظنهم يهيمن على الجو، ويُنزل من السماء المطر والثلج، حتى الضفادع تضرع للقمر بالدعاء لينزل لها المطر .
ولسنا ندري متى حلت الشمس محل القمر سيدة على دولة السماء، عند الديانة البدائية؛ وربما حدث ذلك حين حلت الزراعة محل الصيد، فكان سير الشمس محدداً لفصول البذر وفصول الحصاد، وأدرك الإنسان أن حرارة الشمس هي العلة الرئيسية فيما تدره عليه الأرض من خيرات؛ عندئذ انقلبت الأرض في أعين البدائيين إلهة تخصبها الأشعة الحارة، وعبد الناس الشمس العظيمة لأنها بمثابة الوالد الذي نفخ الحياة في كل شيء حي ومن هذه البداية الساذجة هبطت عبادة الشمس إلى العقائد الوثنية عند الأقدمين ولم يكن كثير من الآلهة فيما بعد سوى تشخيص للشمس وتجسيدلها؛ ألم يَقضِ اليونان على أناكسجوراس بالنفي لأنه استباح لنفسه أن يذهب بالظن مذهبا مؤداه أن الشمس ليست إلها، بل هي كرة من النار تقرب في حجمها من"بلبونيز"؟ وكذلك استبقت العصور الوسطى بقية من عبادة الشمس في الهالات التي كان الناس يصورونها حول رءوس القديسين، وإمبراطور اليابان في أيامنا هذه معدود عند معظم شعبه بأنه تجسيد لإله الشمس، الحق أنك لا تكاد تجد خرافة من خرافات العصر القديم إلا ولها لون من الحياة القائمة بيننا اليوم؛ إن المدنية صنيعةُ أقلية من الناس أقاموا بناءها في أناة واستمدوا جوهرها من حياة الترف؛ أما سواد الناس وغمارهم فلا يكاد يتغير منهم شئ كلما مرت بهم ألف عام.
وكل نجم شأنه شأن الشمس والقمر، يحتوي إلهاً وهو بذاته إله، ويتحرك بأمر روح كامن في جوفه؛ وهذه الأرواح في ظل المسيحية أصبحت ملائكة تَهدي سواء السبيل، أو إن شئت فقل أصبحت لأفلاك السماء قادةً تسلك بها في مسالكها، حتى "كبلر" لم يبلغ من النظرة العلمية مبلغا يحمله على إنكارها؛ والسماء نفسها كانت إلهاً عظيما، تقام لها العبادة في تبتل لأنها هي التي تنزل الغيث أو تحبسه؛ وكثير من القبائل البدائية يستعمل كلمة "الله" لتعني "السماء" ولفظ الله عند "اللوباري" و "الدنكا" معناها المطر، وكذلك كانت السماء عند المنغوليين هي الإله الأعظم، وكذلك الحال في الصين، وفي الهند الفيدية أيضاً، معنى كلمة الله هو "السماء الوالدة"، والله عند اليونان هو زيوس أو السماء "مرغمة السحاب" وهو "أهورا" عند الفرس، أي السماء الزرقاء.
ولا نزال في أيامنا هذه نضرع إلى "السماء" أن تقينا الشرور، ومعظم الأساطير الأولى تدور حول محور واحد، وهو الخصب الذي نتج عن تزاوج الأرض والسماء.
لأن الأرض هي الأخرى كانت إلها، وكل مظهر رئيسي من مظاهرها كان يقوم على أمره إله؛ فللشجر أرواح كما لبني الإنسان سواء بسواء، وقطعُ الشجرة معناه قتل صريح؛ وكان الهنود في أمريكا الشمالية أحياناً يعزون هزيمتهم وانحلالهم إلى أن البيض قد قطعوا الأشجار التي كانت أرواحها تقي "الحُمرَ" من الأذى؛ وفي جزر "مولقا" كانوا يعتبرون الأشجار أيام الإزهار حوامل أجنة، فلا يجيزون إلى جوارها ارتفاع الصوت أو إشعال النار أو غير ذلك من عوامل الاضطراب حتى لا يفسدوا على الأشجار الحبليات سكونها، وإلا لجاز أن تسقط ثمارها قبل نضجها كما تجهض المرأة إن ألم بها الفزع، وكذلك في "أبوينا" Aboyna لا يؤذن بالأصوات العالية على مقربة من الأرز إذا ما أزهرت سنابله خشية أن يصيبه الإجهاض فينقلب أعواداً من القش العقيم و"الفال" القدماء عبدوا أشجار غابات معينة كانت لديهم مقدسة، وكذلك القساوسة "الدرديون" Druid في إنجلترا مجدوا دِبْقَ أشجار البلوط، الذي لا يزال يوحي إلينا بشعيرة من الشعائر المحببة إلى نفوسنا؛ وأقدم عقيدة دينية في آسيا- مما تستطيع أن تتعقبه إلى أصوله التاريخية- هي تقديس الأشجار وينابيع الماء والأنهار والجبال فكثير من الجبال كان أماكن مقدسة، اتخذتها الآلهة مقراً ترسل منه ما شاءت من صواعق؛ وأما الزلازل فليست سوى آلهة ضجروا أو ضاقوا صدراً فهزوا أكتافهم ويعلل أهل "فيجي" الزلازل بأن إله الأرض يتقلب في نومه؛ وإذا ما زلزلت الأرض عند قبيلة "ساموا" أخذوا يقرضون الأرض بأسنانهم ويبتهلون إلى الإله "مافوِي" Mafuie أن يسكن خشية أن تتمزق الأرض كلها إرباً إرباً؛ والأرض عند الناس في شتى النواحي المعمورة تقريباً هي "الأم الكبرى" فاللغة الإنجليزية التي كثيراً ما تكون بمثابة الرواسب التي تجمعت فيها العقائد البدائية أو اللاشعورية، تشير حتى اليوم بصلة القربى بين المادة والأمومة (مادة معناها Matter والأم معناها Mother) وليس "إشترَ" و"سبيل" و"دميتر" و"سيريز" و"أفروديت" و"فينَس" و"فْرِييا" إلا صوراً متأخرة نسبياً لإلهات الأرض الأوليات اللائى خلعن من خصوبتهن خصوبة على الأرض فأخرجت من جوفها الخيرات؛ وما رواه الناس عن ولادة هؤلاء الإلهات وزواجهن وعن موتهن وعودتهن منتصرات إلى الحياة، إن هو إلا رموز أو تعليل لظهور النبات ثم جفافه، والتجديد الملحوظ الذي يطرأ على حياة النبات حيناً بعد حين؛ وهذه الإلهات تدلب أنوثتهن على أن الإنسان البدائي قد ربط بين الزراعة والمرأة؛ فلما أصبحت الزراعة هي الصورة السائدة في الحياة الإنسانية، كانت إلاهات النبات هي سيدة الإلاهات جميعاً؛ ومعظم الأرباب في العصر القديم كان من النساء، ثم حل محلهن الآلهة الذكور، حين ظهرت الأسرة الأبوية فوق الأرض ظافرة.
وكما يرى العقل البدائي فيما يقول من شعر عميق سراً إلهيا في نمو الشجرة، كذلك يرى يداً إلهية في حمل الجنين أو ولادته؛ إن "الهمجي" لا يعرف شيئاً عن البويضة والجرثومة المنوية، لكنه يرى الأعضاء الظاهرة أمام عينيه، التي تشترك معاً في هذه العملية فيؤلهها، فهي كذلك تكمن فيجوفها الأرواح ولا بد من عبادتها، أليست هذه القُوى الخلاقة العجيبة في سرها، أعجب الكائنات جميعاً؟ ففيها تظهر معجزة الخصوبة والنمو أوضح مما تظهر في تربة الأرض نفسها؛ وإذن فلا بد أن تكون اقرب ما تجسد فيه الآلهة قوتها، وتوشك الشعوب البدائية جميعاً أن تعبُدَ الجنس على صورة من الصور أو شعيرة من
الشعائر؛ ولم يكن أدناها، بل أعلاها مدنية، هو الذي عبر عن هذه العبادة تعبيراً كاملا؛ وسنرى هذه العبادة في مصر والهند وبابل وآشور واليونان والرومان؛ كان الناس يجلون الوظيفة الجنسية والجانب الجنسي من آلهتهم البدائية إجلالا عظيما لا لأنهم يرون في ذلك شيئاً من الفاحشة بل لأنهم يرتبطون ارتباطاً وجدانياً بالخصوبة في المرأة وفي الأرض؛ ولذلك عبدوا بعض الحيوان كالعجل والثعبان لآن لهما- فيما يظهر- القوة الإلهية في الإنسال، أو قُل إنهما يرمزان لتلك القوة فلا شك أن الثعبان في قصة عدن رمز جنسي يمثل العلاقة الجنسية باعتبارها أساس الشر كله، ويوحي بأن اليقظة الجنسية هي بداية الخير والشر، وربما يشير كذلك إلى علاقة أصبحتم ضرب الأمثال بين سذاجة العقل ونعيم الفردوس .
وتكاد لا تجد حيواناً في الطبيعة كلها- من الجُعل )الجعران( المصري إلى الفيل عند الهندوس- لم يكن في بلد ما موضع عبادة باعتباره إلها: فهنود "أوجبوا" Ojibwa أطلقوا اسم "طوطم" على حيوانهم الخاص الذي يعبدونه، وعلى العشيرة التي تعبده، وعلى كل عضو من تلك العشيرة؛ ثم جاء علماء الأجناس البشرية فأخذوا هذه الكلمة وجعلوها اسما على مذهب "الطوطمة" الذي يدل دلالة غامضة على أية عبادة لشيء معين- وعادة يكون الشيء المعبود حيواناً أو نباتاً- تتخذه جماعة ما موضع عبادتها؛ ولقد وجدنا أنواعاً مختلفة من الطواطم في أصقاع من الأرض ليسبينها رابطة ظاهرة، من قبائل الهنود في شمالي أمريكا، إلى أهل أفريقيا وقبيلة "درافيد" Daraviians في الهند، وقبائل استراليا؛ ولقد أعان الطوطم باعتباره شعاراً دينياً. على توحيد القبيلة التي ظن أعضاؤها أنهم مرتبطون معاً برباطه، أو هبطوا جميعاً من سلالته؛ فقبيلة "إراكو" تعتقد- على نحو شبيه بما يذهب إليه دارون- أنهم سلالة التزاوج بين النساء وبين الدببة والذئاب والغزلان، وأصبح الطوطم- باعتباره شعاراً أو رمزاً- علامة مفيدة تدل على ما بين البدائيين من قُربى، وتميزهم بعضهم من بعض، ثم أخذ على مر الزمن يتطور في صور عَلمانية فكان منه التمائم والشارات، كهذا الذي تتخذه الأمم من شعارات لها كالأسد أو النسر، أو الأيل الذي تتخذه الجمعيات التي تعمل على الإخاء بين الناس، أو هذه الحيوانات الخرساء التي تصطنعها الأحزاب السياسية عندنا اليوم، لتمثيل رسوخ الفيلة أو صخب البغال؛ وكانت الحمامة والسمكة والحَمل، في رمزية العقيدة المسيحية إبان نشوئها، بقايا القديم في تمجيد الطواطم؛ بل إن الخنزير الوضيع كان يوماً طوطما لليهود السابقين للتاريخ؛ وفي معظم الحالات كان الطوطم محرماً لا يجوز لمسه؛ ويجوز أكله في بعض الظروف، على أن يكون ذلك من قبيل الشعائر الدينية، فهو بذلك يرمز إلىأكل الإنسان لله أكلا تعبديا ، وقبيلة "غالا" في الحبشة تأكل السمكة التي تعبدها في احتفال ديني رصين، ويقول أبناؤها: "إننا نشعر بالروح تتحرك فينا إذ نحن نأكلها"؛ وما كان أشد دهشة المبشرين الأطهار، إذ هم يبشرون بالإنجيل لقبيلة "غالا" أن وجدوا بين هؤلاء السذج شعيرة شديدة الشبه بالقُداس عند المسيحيين.
ويجوز أن قد كان الخوف أساس الطوطمة، كما هو أساس كثير من العبادات، وذلك بأن يكون الإنسان قد عَبَدَ الحيوان لقوته، فلم يَرَ بُدّاً من استرضائه، فلما أن طهر الصيدُ الغابة من وحشها، ومهد الطريق للطمأنينة تتوفر في الحياة الزراعية، قَلّت عبادة الحيوان ولو أنها لم تزُل تمام الزوال؛ وربما استمدت الآلهة البشرية الأولى طبعها من الآلهة الحيوانية البشرية لها بديلا؛ والانتقال من أولئك إلى هؤلاء واضح في القصص المشهورة التي تروى لنا تحول الصورة الإلهية، والتي تراها في"أوفد" الشاعر، وفي كل شاعر من قبيلة من تراهم في لغات الأرض جميعاً، فتصف لنا تلك القصص كيف كانت الآلهة، أو كيف صارت حيوانية الصورة، وبعدئذ ظلت صفات الحيوان لاحقة بالآلهة لا تبرحها، كما تظل رائحة الاصطبل لاحقة بمكانه حتى بعد تحويله قصراً ريفياً منفيا؛ حتى في "هومر" الذي كان قد بلغ من الرقي مبلغاً بعيداً، ترى الإلهة "جلوكوبس أثيني" لها عينا بومة، و "هيري بوبس" لها عينا بقرة؛ والآلهة أو الغيلان في مصر وبابل، بوجوهها الإنسانية وأجسادها الحيوانية تبين مرحلة الانتقال نفسها، وتعترف بالحقيقة عينها، وهي أن كثيراً من الآلهة البشرية كانت يوماً آلهة حيوانية.
ومع ذلك فمعظم الآلهة البشرية قد كانوا- فيما يظهر- عند البداية رجالا من الموتى ضخموا بفعل الخيال؛ فظهور الموتى في الأحلام كان وحده كافياً للتمكين من عبادتهم، لأن العبادة إن لمتكن وليدة الخوف، فهي على الأقل زميلته؛ وخصوصاً من كانوا أقوياء إبان حياتهم، فألقوا الخوف في نفوس الناس؛ هؤلاء يرجح جداً أن يُعبدوا بعد موتهم، ولذلك تجد الكلمة التي معناها "إله" عند كثير من الشعوب البدائية، معناها في الحقيقة "رجل ميت"؛ وحتى اليوم، ترى كلمة "Spirit" في الإنجليزية وكلمة "Geist" في الألمانية معناهما إما روح وإما شبح؛ وكان اليونان يتبركون بموتاهم على نحو ما يتبرك المسيحيون بالقديسين؛ ولقد بلغت العقيدة في استمرار حياة الموتى- وهي عقيدة تولدت في بدايتها من الأحلام- مبلغاً عظيما حتى جعل البدائيون أحياناً يرسلون الرسائل لموتاهم بمعنى الكلمة الحرفي الدقيق؛ ففي قبيلة من القبائل، إذا ما أراد الرئيس أن يبعث بخطاب لميت، أسمعه لعبدٍ ثم قطع رأس العبد ليؤدي الرسالة، فإذا نسى الرئيس شيئاً كان يريد ذكره في الخطاب، أرسل عبداً آخر بنفس الطريقة ليكون "حاشية" للخطاب الأول.
ثم تدرجت عبادة الأشباح حتى أصبحت عبادة للأسلاف؛ فقد بات الناس يخافون موتاهم جميعا ويعملون على استرضائهم خشية أن يُنزلوا لعناتهم على الأحياء فيجلبوا لهم الشقاء؛ وكأنما كانت هذه العبادة للأسلاف مهيأة على نحو يجعلها ملائمة لتدعيم المجتمع من حيث سلطانه ودوامه، وللتمكين من روح المحافظة على القديم والاحتفاظ بالنظام؛ حتى لقد شاعت شيوعاً سريعاً في كل أرجاء المعمورة فازدهرت في مصر واليونان وروما، ولا تزال قائمة ومستولية على النفوس بقوة في اليابان والصين الآن؛ وإن كثيراً من الشعوب ليعبدون أسلافهم دون أن يكون لديهم إله ؛ ولقد عمل هذا الاتجاه على ربط أواصر الأسرة ربطاً وثيقاً؛ على الرغم من كراهة الخلف لهذا النظام وكذلك كان لكثير من المجتمعات البدائية بمثابة إطار خفي ينتظم الأفراد في مجموعة متماسكة؛ وكما أن القهر أنهى إلى أن يكون ضميراً، فكذلك الخوف تطور حتى أصبح حُبّاً؛ فشعائر عبادة الناس لأسلافهم، التي يرجح أنها كانت وليدة الخوف في أول الأمر، قد أثارت في القلوب بعدئذ شعور الرهبة، ثم تطور أخيراً إلى ورع وتقوى؛ وكذلك ترى الاتجاه في الآلهة أن يبدءوا في صورة الغيلان المفترسة ثم ينتهون في صورة الآباء الذين يحبون أبناءهم؛ وهكذا يتحول الصنم المعبود على مر الزمن إلى مثل أعلى منشود، كلما عملت زيادة الاطمئنان والأمن والشعور الخلقي لدى العابدين على الحد من وحشية آلهتهم كما تصوروها أولا، وتحوير ملامحهم تحويراً يلائم الطور الجديد؛ إن البطء في سير المدنية ليتمثل في تأخر المرحلة التي أحس فيها الناس بحب آلهتهم.

إن فكرة إله بشري لم تظهر في مراحل التطور الطويلة إلا أخيراً؛ وقد برزت في صورة واضحة بعد اجتيازها لمراحل كثيرة أخرجتها من تصور الإنسان لمحيط خضم أو لحشد كبير من الأرواح والأشباح تحيط بكل شيء وتعمر كل شيء؛ ثم انتقل الإنسان من خوفه وعبادته لأرواح غامضة المعالم مبهمة الحدود، إلى تمجيد القوى السماوية والنباتية والجنسية، ثم إلى خشوعه للحيوان وعبادته للأسلاف، والأرجح أن تكون فكرة الإنسان عن الله بأنه "أب" قد تفرعت عن عبادة الأسلاف، لأن معناها في الأصل هو أن الناس قد هبطوا من الآلهة بأجسامهم، لا بأرواحهم فقط ولذا لا تجد في اللاهوت البدائي حداً فاصلا متميزاً من حيث النوع بين الآلهة والناس؛ فعند اليونان الأقدمين- مثلا- كان الأسلاف آلهة والآلهة أسلافا؛ وتلت ذلك خطوة أخرى في التطور، حين ميَّزَ الناس من بين هؤلاء الأسلاف الخليط رجال ونساء بعينهم، كان لهم امتياز خاص دون سائر الأسلاف، فأسبغوا عليهم لونا أوضح من الربوبية الصريحة؛ وبهذا أصبح أعلام الملوك آلهة حتى قبل موتهم أحياناً؛ لكننا إذا ما بلغنا من التطور هذه المرحلة فقد بلغنا المدنية التي دونها التاريخ.
3- طرائق الدين السحر - طقوس الزراعة - أعياد الإباحة - أساطير الإله المبعوث - السحر والخرافة - السحر والعلم - الكهنة


لما تصور الإنسان البدائي عالما من الأرواح يجهل طبيعتها وغاياتها، فقد عمل على استرضائها واجتلابها في صفه لمعونته ومن هنا كانت إضافته إلى الروحانية التي هي جوهر للديانة البدائية، سحرا هو بمثابة الروح من شعائر العبادة البدائية؛ فقد تصور البولينيزيون خضما حقيقيا مليئا بقوة السحر وأطلقوا عليه اسم "مانا" وكان الساحر في رأيهم إنما يُقطر لهم قطرات ضئيلة من هذا المورد الذي لا ينتهي، والذي يستمد منه قدرته على السحر؛ وكان ما يسمى "بالسحر التمثيلي" هو أول الطرائق التي كسب بها الإنسان بأداء أشباه الأفعال التي يريد من الآلهة أن يؤدوها له، كأنه بذلك يغريهم بتقليده، فمثلا إذا أراد الناس أن يستنزلوا المطر، صَبَ الساحر ماء على الأرض، والأفضل أن يصبه من أعلى الشجرة؛ ويحكى عن قبيلة الكفير أنها حين تَهددَها الجفافُ، طلبوا إلى مبشر أن يذهب إلى الحقول ويفتح مظلته؛ وفي سومطره، تصنع المرأة العقيم صورة طفل تضعها على حجرها راجية أن يجيئها بعد ذلك الجنين؛ وفي "أرخبيل بابار" تصنع المرأة- إذا ما أرادت لنفسها الأمومة- عروسا من قطن أحمر، وتقوم بحركات إرضاعها، وتقول صيغة سحرية معلومة؛ ثم تبعث إلى القرية بمن يشيع أنها حملت، فيجيء أصدقاؤها لتهنئتها؛ الحق أنه لا يستطيع أن يرفض تحقيق هذا الخيال إلا واقع عنيد؛ وفي قبيلة "دياك" في بورنيو، إذا أراد الساحر أن يخفف آلام امرأة تضع، يقوم هو نفسه بحركات الوضع على سبيل التمثيل، لعله بذلك يوحي بقوة سحره إلى الجنين أن يظهر، وأحيانا يدحرج الساحر حجرا على بطنه ثم يسقطه على الأرض، أملا أن يقلده الجنين المستعصي فتسهل ولادته؛ وفي العصور الوسطى كانوا يسحرون الشخص بأن يغزو الدبابيس في تمثال من الشمع يمثل صورته وهنود بيرو يحرقون الناس ممثلين في دُماهم، ويطلقون على هذا اسم إحراق الروح، وليس سواد الناس في العصر الحاضر بأرقى من هذا السحر البدائي في تخريفهم.
كانت طرائق الإيحاء بالتمثيل تُستخدم بصفة خاصة لإخصاب التربة، فأرباب العلم في زولو يشوون الأعضاء التناسلية للرجل إذا مات في عنفوانه، ثم يطحنونها ويسحقونها رماداً يذر فوق الحقول؛ وبعض الشعوب تختار للربيع ملكاً وملكة من بين رجالها ونسائها، وتزوجهما في حفل علني، لعل التربة تصغي إلى الحفل ومغزاه فتسرع إلى أزهار النبات؛ بل إنهم في بعض البلدان يضيفون إلى مثل ذلك الحفل أن يقوم العروسان فعلا بعملية التزاوج علنا، حتى لا يتركوا للطبيعة- على الرغم من أنها ليست سوى طين بارد جامد- عذراً بأنها لم تفهم الواجب الذي طلبَ إليها أداؤه؛ وفي جاوة، يتصل الفلاحون وزوجاتهم اتصالا جنسياً في حقول الأرز ليضمنوا خصوبة إنتاجها ذلك لأن البدائيين لم يفهموا نمو النبات بلغة النتروجين، بل فهموه- بالطبع دون أن يعلموا أن للنبات ذكوراً وإناثاً- على نفس الأساس الذي كانوا يعللون به إثمار المرأة؛ ثم أليس في استعمالنا لكلمات مثل إثمار للطبيعة وللمرأة معاً، ما يذكرنا بعقيدتهم تلك وما تنطوي عليه من شعر؟
وتقام أعياد يختلط فيها الجنسان اختلاطاً بغير ضابط، وهي في معظم الحالات إنما تقام في فصل البذر، بمثابة أمر يوقف القوانين الخلقية حيناً )وهي تذكر الناس بما كان في علاقاتهم الجنسية في أيامهم الماضية من حرية نسبية( والغاية من هذه الأعياد إخصاب زوجات مَن بهم عقم من الرجال من جهة، وإيحاء للأرض في فصل الربيع بأن تخرج عن تحفظها الذي لازمته أيام الشتاء، لتتقبل ما بذروهُ فيها من بذور، وتهيئ نفسها لإخراج نتاج طيب من القوت، وتقام هذه الأعياد عند عدد كبير من الشعوب الفطرية، وخصوصاً بين أهل كامرون في الكونغو، والكفير، والهوتنتوت، والبانتو، وفي ذلك يقول "هـ. رولي" H. Rowley وهو من رجال الدين في بانتو:
"إن أعياد الحصاد شبيهة في خصائصها بأعياد "باخوس" )عند اليونان(... فأنه يستحيل على إنسان أن يشاهدها دون أن يأخذه الخجل... فهم لا يكتفون في هذه الإباحة الجنسية الكاملة بضمَّ من تنصّر حديثاً، بل لا يكتفون بضمَّ من طالَ أمد تنصره، لكنهم يغرون أي زائر وقفَ ليشاهد حفلهم بالانغماس معهم في إباحتهم؛ عندئذ لا يحول الناس حائل دون الانغماس في الدعارة، وهم لا ينظرون إلى الزنا نظرة فيها أثر من معنى البشاعة، بسبب الظروف التي تحيط بهم حينئذ، بل أنهم لا يسمحون لرجل حضر الاحتفال أن يضاجع زوجته".
وتظهر أعياد كهذه في عصور المدنية التي دونّها التاريخ، فاحتفالات "باخي" عند اليونان، وأشباهها في روما وفي فرنسا إبان العصور الوسطى وفي إنجلترا وسائر الاحتفالات التهريجية التي نشاهدها في عصرنا، كل هذه من قبيل الأعياد الإباحية القديمة.
على أن شعائر الزراعة هذه تتخذ في بعض البلاد هنا وهناك صورة أقل ظرفاً مما ذكرنا- كما هي الحال عند البونيين Pawness وعند هنود جوايا كيل؛ فرجل يضحى به في وقت البذر حتى تخصب الأرض بدمائه- وفيما بعد خفت الصورة بعض الشيء، فاكتفوا بذبح الحيوان قرباناً-؛ حتى إذا ما حلّ موسم الحصاد فسّروه بأنه بعث للرجل الذي مات ضحيةً، فكانوا يخلعون عليه قبل موته وبعده جلال الآلهة؛ ومن هذا الأصل نشأت الأسطورة التي تروى في ألف صورة مختلفة كيف يموت الله في سبيل شعبه، ثم يعود إلى الحياة بعدئذ ظافراً؛ وعمل الشعر على زخرفة السحر حتى حوله ضرباً من اللاهوت، واختلطت الأساطير تروى عن الشمس بشعائر الزراعة اختلاطاً فيه تناسق وانسجام، بحيث أصبحت الأسطورة التي تروى عن موت الإله وعودة ولادته، لا يقتصر مدلولها على موت الشتاء وعودة الحياة إلى الأرض في الربيع بل جاوزت ذلك إلى الانقلابين الآخرين: الصيفي والخريفي، وما يعقب ذلك من قصر النهار وطوله؛ ذلك لان حلول الليل لم يكن إلا جزءاً من هذه المأساة؛ فإله الشمس يموت كل يوم مرة ويولد كل يوم مرة، فكل غروب له بمثابة الاستشهاد على الصليب، وكل شروق هو بعث له ونشور.
والظاهر أن التضحية بالإنسان- التي ذكرنا من شتى صنوفها مثلاً واحداً- قد أخذ بها الإنسان في كل الشعوب تقريباً، فتظهر ها هنا يوماً وهنالك يوماً،
فقد وجدنا في جزيرة كارولينا في خليج المكسيك تمثالاً كبيراً معدنياً أجوف لإله مكسيكي قديم، فوجدنا فيه رفات كائنات بشرية، لا شك أنها ماتت بالحرق قرباناً لله، وكلنا يسمع عن "مُلُخْ" الذي كان الفينيقيون والقرطاجنيون، وغيرهما من الشعوب السامية حيناً بعد حين، يقدمون له القرابين من بني الإنسان؛ ولقد شهد عصرنا الحاضر هذه العادة قائمة في روديسيا وربما كان منشأ هذه العادة أكل البدائيين للحوم البشر، فظنوا أن الآلهة تستمرئ من الطعام ما يستمرئون؛ ولما كانت العقيدة الدينية أبطأ تغيراً من سائر العقائد، ثم لمّا كانت الشعائر الدينية أبطأ تغيراً من العقائد نفسها، فقد امتنع الإنسان عن أكله للحم الإنسان، وبقى التقليد قائماً بالنسبة للآلهة؛ ومع ذلك فقد تغيرت حتى هذه الشعائر الدينية بفضل تطور الأخلاق، بحيث طفق الآلهة يقلدون عبادهم في الزيادة من اصطناع الرقّة، واستسلموا للوضع الجديد فقبلوا لحم الحيوان طعاماً بدل لحم الإنسان، فَضُحّى بغزال بدل التضحية بافجينيا )في أساطير اليونان( كما ضُحّى بكبش بدل التضحية بابن إبراهيم؛ ومضى الزمان في تقدمه، فحرمت الآلهة حتى هذا الحيوان، لأن الكهنة آثروا أنفسهم بالطعام الشهي، وأخذوا يأكلون كل ما يمكن أكله من الضحية المقدمة، ثم يهبون الآلهة على مذبح القربان أمعاء الضحية وعظامها.
ولما كان الإنسان الأول يؤمن بأن قوة ما يأكله تنتقل إليه، فقد كان من الطبيعي أن ترد على خاطره فكرة أكل الإله؛ ففي كثير من الحالات كان يأكل لحم الإله البشري ويشرب دمه، ذلك الإله الذي عبده وسمّنه استعداداً للتضحية به؛ لكن الطعام كثرت موارده وضمن الإنسان اطراده، فانتهى ذلك إلى زيادة الرحمة في فؤاده، ولذلك استبدل بالتضحية الإلهية رموزاً على هيئتها، واقتنع بأكلها، ففي المكسيك القديمة، كان يصنع تمثال لله من الغلال والحبوب والخضر، يعجن بدماء صبيان يضحّى بهم لهذه الغاية، ثم يأكلونه على أنه بديل ديني لأكل الله نفسه؛ وأشباه هذه الاحتفالات الدينية وجدناها بكثرة في القبائل البدائية، وكانت العادة أن يطلب إلى الناس أن يصوموا عن الطعام فترة قبل أكل التمثال المقدس، وكان الكاهن ساعتئذ يقول بعض العبارات السحرية ليحول بها التمثال المأكول إلى إله حقيقي.
ولئن بدأ السحر بالخرافة فإنه ينتهي بالعلوم، فألوف من أغرب العقائد جاءت نتيجة للفكرةا لروحانية القديمة، ثم نشأ عنها صلوات وطقوس عجيبة؛ فقبيلة "كوكى" Kukis كانت تلهب حماسة أبنائها في القتال بزعمها لهم أن الأعداء القتلى سيكونون لهم عبيداً في الحياة الآخرة؛ ولكنك من ناحية أخرى ترى الرجل من قبيلة "بانتو" Bantu إذا قتل عدواً له، حلق رأس نفسه، وطلى نفسه بروث الماعز، ليمنع روح الميت من العودة إليه والفتك به، وتكاد الشعوب البدائية كلها تجمع على فعل اللعنات وشر "العين الحاسدة" فلم يشك الأستراليون الأصليون في أن اللعنة ينطق بها الساحر القوي، تقضي على حياة اللعين وإن يكن منه على بعد مائة ميل؛ وبدأت العقيدة في السحر في أوائل مراحل التاريخ الإنساني، ولم تَزل عن الإنسان قط زوالا تاما؛ وعبادة الأصنام وغيرها مما يكون له قوة سحرية كالتمائم، أرسخ في القِدَم من السحر نفسه وأثبت منه جذوراً في النفوس؛ ولما كانت التمائم تُحَددُ لها مناطق القوة، بمعنى أن يكون لكل تميمة أثر في ناحية معينة دون غيرها، فإنك ترى بعض الشعوب تُثقِل أنفسها بأحمال منها لكي يكونوا على أهبة الاستعداد لكلما عسى أن تفجأهم به الأيام والأحجية إن هي إلا صورة متأخرة في الظهور، ومَثل من الأمثلة التي تعاصرنا، من الأصنام أو ما إليها من ذوات القوة السحرية، فنصف سكان أوروبا يلبسون المُدليَات والتمائم ليستمدوا بواسطتها وقاية و معونة من وراء الطبيعة؛ إن تاريخ المَدنية ليعلمنا في كل خطوة من خطوات سيره، كم تبلغ قشرةُ الحضارة من الرقة والوهن، وكيف تقوم المدنية على شفا جُرُف هارٍ فوق
قمة بركان لا يخمد سعيره، من وحشية بدائية وخرافة وجهل مكبوت، إن المدنية العصرية ليست سوى غطاء وضع وضعاً على قمة العصور الوسطى، ولا تزال تلك العصور ولن تزال باقية.
ولا يسع الفيلسوف إلا أن يَقبَل راضياً هذا الفقر من الإنسان إلى معونة مما فوق الطبيعة تبعثفي نفسه الطمأنينة؛ ويجد لنفسه العزاء في علمه بأن الأدب المسرحي والعلوم تنشأ عن السحر، كما ينشأ الشعر عن مذهب الروحانية؛ فقد بين لنا "فريزر" Frazer- في شيء من المبالغة لا نستغربه من مبدع موهوب- أن أمجاد العلم تمتد بجذورها إلى سخافات السحر؛ لأنه كلما أخفق الساحر في سحره استفاد من إخفاقه هذا استكشافاً لقانون من قوانين الطبيعة، يستعين بفعله على مساعدة القوى الطبيعية في إحداث ما يريد أن يحدثه من ظواهر؛ ثم أخذت الوسائل الطبيعية تسود وترجح كفتها شيئاً فشيئاً، ولو أن الساحر كان دائماً يخفي هذه الوسائل الطبيعية ليحتفظ بمكانته عند الناس، ما استطاع إلى إخفائها من سبيل، بأن يعزو الظاهرة التي أحدثها للسحر الذي استمده من القوى الخارقة للطبيعة- وهذا شبيه جداً بأهل هذا العصر حين يعزون الشفاء الطبيعي لوَصفَات وعقاقير سحرية؛ وعلى هذا النحو كان السحر هو الذي أنشأ لنا الطبيب والصيدلي، وعالم المعادن، وعالم الفلك.
لكن الطريق أقصر بين الفلكي والساحر منها في سائر ضروب العلماء؛ ذلك لأنه لما تعددت طقوس الدين وتعقدت، لم يَعد الرجل العادي يقدر على استيعابها جميعاً، والإلمام بها جميعاً ومن هنا نشأت طبقة خاصة أنفقت معظم وقتها في مهام الدين ومحافله؛ وأصبح الكاهن باعتباره ساحراً، بما له من قدرة على الذهول الروحي وتلقي الوحي وتوجيه الدعاء المستجاب، أقر بصلة بإرادة الأرواح أو الآلهة بحيث يستطيع تحويل تلك الإرادة إلى ما فيه نفع الإنسان؛ ولما كان هذا الضرب من العلم والمهارة هو في رأي البدائيين أهم ضروب العلم والمهارة جميعاً، ثم لما تصوروا أن القوى الخارقة للطبيعة لها أثرها في حياة الإنسان عند كل منعطف في الطريق، فقد أصبحت قوة رجال الدين مساوية لقوة الدولة؛ وجعل الكاهن )أو القسيس( منذ أقدم العصور إلى أحدثها ينافس الجندي المقاتل في سيادة الناس والإمساك بزمامهم، حتى لقد راح الفريقان يتناوبان ذلك، وحسبنا في التمثيل لذلك أن نسوق مصر، ودولة اليهود وأوروبا في العصور الوسطى أمثلة.
إن الكاهن لم يخلق الدين خلقاً، لكن أستخدمه لأغراضه فقط، كما يستخدم السياسي ما للإنسان من دوافع فطرية وعادات؛ فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو ألاعيب كهنوتية، إنما نشأت عن فطرة الإنسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع وخوف وقلق وأمل وشعور بالعزلة؛ نعم إنا لكاهن قد أضر الناس بإبقائه على الخرافة وباحتكاره لضروب معينة من المعرفة، لكنه مع ذلك عمل على حصر الخرافة في نطاق ضيق، وكثيراً ما كان يحمل الناس على إهمال شأنها، وهو الذي لقن الناس بداية التعليم والتهذيب، وكان بمثابة المستودع وأداة التوصيل بالنسبة للتراث الثقافي الإنساني المتزايد؛ وكان عزاء للضعيف في استغلال القوى له استغلالاً لم يكن عنهم نصرف ولا محيص؛ كما أصبح الفعل الفعال الذي أعان الدين على تغذية الفنون، وتدعيم بناء الأخلاق الإنسانية المترنح بدعامة من القوة العليا؛ فلو لم يجد الناس بينهم كاهناً لخلقوه لأنفسهم خلقاً.

4- مهمة الدين الخلقية الدين والحكومات - المحرمات الجنسية - تأخر الدين - التحول العلماني


الدين دعامة الأخلاق بوسيلتين أساسيتين هما الأساطير والمحرمات؛ فالأساطير هي التي تخلق العقيدة فيما وراء الطبيعة، ثم يكون من شأن هذه العقيدة أن تضمن بقاء أنواع من السلوك يريد المجتمع )أو يريد الكهنة( بقاءها؛ فما يرجوه الفرد في السماء من ثواب وما يخشاه لديها من عقاب يضطره اضطراراً أن يذعن للقيود التي يفرضها عليه سادته أو جماعته؛ فالإنسان ليس بطبعه مطيعاً رقيقاً طاهراً وليس شيء كالخوف من الآلهة - وذلك بعد القهر الذي خضع له الفرد قديماً فأنشأ في نفسه الضمير - أخضع الإنسان لهذه الفضائل التي لا تتفق وطبيعته إخضاعها مطرداً صامتاً؛ فأنظمة الملكية والزواج تتوقف إلى حد ما على العقوبات الدينية وهي تميل إلى فقدان قوتها في العصور التي يسود فيها الشك الديني؛ بل الحكومة نفسها التي هي أهم أداة اجتماعية اصطنعها الإنسان، وأبعد أداة عن طبيعة الإنسان، كثيرا ما استعانت بالتقوى وبالكاهن، كما فعل أذكياء الهراطقة مثل نابليون وموسوليني اللذين لم يلبثا أن كشفا عن هذه الحقيقة؛ ومن هنا كان ثمة "ميل إلى قيام دولة دينية كلما نشأت الدساتير"؛ فلئن كانت قوة الرئيس البدائي تستمد الزيادة من السحر والعرافة، فإن حكومتنا نفسها تستمد بعض القوة من اعترافها السنوي "بإله المهاجرين".
وأطلق أهل "بولنيزيا" كلمة "تابو" )ومعناها التحريم( على ما يحرمه الدين؛ فلما تقدمت المجتمعات البدائية بعض الشيء، اصطنعت هذه الحُرُمات الدينية مكانة هي التي أصبحت فيظل المدنية مكانة القوانين؛ وكانت صيغة التحريم عادةً سالبة: فبعض الأفعال وبعض الأشياء أعلن عنها أنها "مقدسة" أو "نجسة" وكان اللفظان في الواقع يعنيان نذيراً واحداً، وهو أن تلك الأفعال أو الأشياء لا يجوز لمسها؛ "فتابوت العهد" مثلاً كان محرماً، ويُروى عن "عُزّى" أنه سقط صعقاً عند لمَسِه لمنعِه من السقوط؛ ويؤكد لنا "ديودورس" عن المصريين القدماء أنهم أكل بعضهم بعضاً إبان المجاعة، فذلك آثر عندهم من الاعتداء على تحريم أكل الحيوان الذي اتخذته القبيلة طوطماً لها؛ وإنك لتجد في معظم الجماعات البدائية عدداً كبيرا جداً من هذه المحرمات، فكلمات معينة وأسماء معينة ما كان لها قط أن تُنطق، وأيام معينة
وفصول معينة كانت من المحرمات بمعنى أن القتل لم يكن يؤذن به خلالها؛ وكل معرفة البدائيين بحقائق الغذاء وبعض جهلها بتلك الحقائق، كان سبيلها إليهم تحريمات معينة أقامها الناس على ألوان الطعام، فهُم لم يلقنوا مبادئ الصحة عن طريق العلم أو عن طريق الطب العَلماني بقدر ما لقنوها عن طريق الدين.
وكانت المرأة أهم ما اتجه إليه التحريم عند البدائيين فآلاف الخرافات نشأت عن المرأة لتجعلها، آناً بعد آن، مُحرمَة اللمس، خطرةً، "نجسة"؛ إن منشئ الأساطير في أنحاء العالم لم يكونوا أزواجاً موفقين، لأنهم متفقون جميعاً على أن المرأة أساس الشر كله، فلم يقتصر هذا الرأي على الديانتين اليهودية والمسيحية، بل جاوزهما إلى مئات من الأساطير الوثنية؛ وأدق التحريمات البدائية كان خاصاً بالمرأة إبان حيضها، فكل من لَمسها أو كل ما لمسها في هذه الفترة فَقدَ فضيلته إن كان إنساناً، وضاعت فائدته إن كان غير ذلك؛ فحرمَّ "الماكوزى" Macusi من أهل غيانة البريطانية على نسائهم أن يستحممن إبان حيضهن خشية أن يُسَممن الماء، كما حرموا عليهن الذهاب إلى الغابةفي مثل هذه الفترات، حتى لا تعضَّهن الثعابين غراماً بهن؛ حتى الولادة كانت عندهم نجسة، وكان على الأم بعدها أن تطهر نفسها في كثير جداً من الطقوس الدينية؛ والعلاقة الجنسية حرام في معظم القبائل البدائية، ليس فقط إبان فترات الحيض، بل كذلك أثناء الحمل والرضاعة، ولعل هذه التحريمات قد أنشأها النساء أنفسهن بما لهن من إدراك سليم وما يبغين لأنفسهن من وقاية وراحة، لكن الأصول سرعان ما تُنسى، وتنظر المرأة فإذا هي "مشوبة" وإذا هي "نجسة"؛ وانتهى بها الأمر إلى أن توافق الرجل على وجهة نظره، وراحت تشعر بالعار في حيضها، بل في حملها؛ ومن التحريمات وأمثالها نشأ الحياء ونشأ الشعور بالخطيئة، والنظر إلى العلاقة الجنسية على أنها نجاسة، وكذلك نشأ التقشف وعزوبة الرهبان ونشأ إخضاع النساء.
ليس الدين أساس الأخلاق، لكنه عون لها، فقد يمكن تصور الأخلاق بغير دين، وليس الأمر النادر أن تتطور الأخلاق في طريقها إلى التقدم بينما يبقى الدين لا يأبه لها، أو يقاومها مقاومة عنيدة؛ ففي الجماعات الأولى، وفي بعض الجماعات المتأخرة، كانت الأخلاق فيما يظهر على أتم استقلال عن الدين، وفي مثل هذه الحالة لا يُعنى الدين بقواعد السلوك، بل يُعنى بالسحر والطقوس وتقديم القرابين، والرجل الطيب عندئذ هو من يؤدي محافل الدين أداء المطيع، ويمدها بماله في ولاء وإخلاص؛ والدين بصفة عامة لا يَرعى الخير المطلق )إذ ليس هناك خير مطلق(، بل يرعى معايير السلوك التي وطدت نفسها بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية؛ وهو كالقانون يلتفت إلى الماضي ليستمد منه أحكامه، وهو قمين أن يتخلف في الطريق كلما تغيرت الظروف وتغيرت معها الأخلاق؛ فقد تعلم الإغريق مع الزمن أن يمقتوا مضاجعة المحارم، مع أن أساطيرهم كانت ما تزال تمجد الآلهة الذين يفعلون ذلك، والمسيحيون يصطنعون نظام الزوجة الواحدة بينما إنجيلهم يُحلل تعدد الزوجات؛ وامتنع الرق امتناعاً تاماً بينما المتدينون كانوا يدافعون عن قيامه بشواهد من الإنجيل لا تُنقض؛ وفي يومنا هذا نرى الكنيسة تقاتل قتال الأبطال لتقيم تشريعاً خلقياً قضت عليه الثورة الصناعية قضاء مبرماً لا شك فيه؛ فالعوامل الأرضية هي التي تسود آخر الأمر، والأخلاق توائم بين نفسها وبين المستحدثات الاقتصادية شيئاً فشيئاً، ثم يتحرك الدين كارهاً فيوفق بين نفسه وبين الأخلاق الجديدة ؛ إن الوظيفة الخلقية للدين هي أن يحافظ على القيم القائمة، أكثر مما يخلق قيماً جديدة.
ومن هنا كان من علامات المراحل العليا في كل مدنية أن يحدث التجاذب بين الدين والمجتمع؛ يبدأ الدين بمَدَد من السحر يقدمه للناس في حيرتهم وارتباكهم؛ ثم يصعد إلى قمة مجده بمَدَد من وحدة الأخلاق والعقيدة يقدمها للناس فتجيء هذه
الوحدة معُينة أكبر العون للسياسة والفن؛ ثمينتهي بقتال يفنى فيه فناء المنتحر دفاعاً عن قضية الماضي الخاسرة؛ ذلك لأنه كلما تقدمت المعرفة أو تغيرت تغيراً متصلاً، اصطدمت بالأساطير واللاهوت اللذين يتغيران تغيراً بطيئاً بطئاً لا يُحتمَل؛ وعندئذ يشعر الناس برقابة رجال الدين على الفنون والآداب كأنها أغلال ثقيلة وحائل ذميم، ويتخذ التاريخ الفكري في مثل هذه المرحلة صيغة النزاع بين العلم والدين"؛ والأنظمة التي تبدأ في أيدي رجال الدين، مثل القانون والعقاب، والتربية والأخلاق، والزواج والطلاق، تميل نحو الإفلات من رقابة الدين لتصبح أنظمة دنيوية، حتى ليعدها الدين أحياناً خارجة عليه، والطبقات المستنيرة تطرح وراء ظهورها اللاهوت القديم، ثم- بعد شيء من التردد- تطرح معه التشريع الخلقي؛ عندئذ تصبح الفلسفة والأدب مناهضة لرجال الدين، وترتفع حركة التحرير إلى عبادة العقل عبادة المتفاني، تكبو فيما يشبه الشلل الذي تسببّه خيبةُ الأمل إزاء كل عقيدة وكل فكرة؛ ويتدهور السلوك الإنساني إذا ما سُلِبَ دعائِمَه الدينيةَ، فينقلب ضرباً من الفوضى الأبيقورية؛ بل إن الحياة نفسها، وقد حَرَمتها ما فيها من إيمان يبعث العزاء في النفوس، تصبح عبئاً ثقيلا للفقير الشاعر بفقره، وللغني الذي مَلَّ غناه آن معاً، وفي النهاية ينحدر المجتمع وتنحدر معه عقيدته الدينية نحو السقوط معاً في ميتة واحدة كأنهما الجسد والروح، على أنه سرعان ما تنشأ أسطورة أخرى بين الناس إذ هم ينوءون تحت هذا العبء الفادح، أسطورة تَصبّ الأمل الإنساني في قالب جديد، وتمد الجهد الإنساني بحماسة جديدة، ثم تبنى مدنية جديدة بعد أن تنقضي قرون في حالة من الفوضى.
__________________________

منقول من قصة الحضارة لول ديورانت
http://www.civilizationstory.com

1 comment:

  1. الله خلق و لم يخلق
    الله ليس مخلوق
    فاسكت ايها الصعلوق

    ReplyDelete